الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإني سأتناول في هذه العجالة موضوع "المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية.. فضائله ونواقصه" وها أنا أستعين بالله وأشرع في الكتابة رغم كل المعوقات، آملا أن تنجح محاولتي هذه في إثارة الموضوع، والإلمام ببعض جوانبه، وإن لم تحط به كله. فما لا يدرك كله لا يترك جله.
المبحث الأول: مدخل عام
المطلب الأول: المنهج التربوي
تعريف المنهج:
المنهج (بفتح الميم وكسرها) والمنهاج لغة: الطريق الواضح
وفي الاصطلاح التربوي هو: "مجموع الخبرات والمهارات وأوجه النشاط التي توفرها المدرسة لتلاميذها، لتحقق لهم أقصى درجة ممكنة من النمو المتكامل، وتحقق للمجتمع كامل أهدافه من التربية والتعليم.."
وقد تطور مفهوم المنهج وصار يشمل: الأهداف، والمقررات الدراسية، وأساليب التدريس، والوسائل التعليمية، والتقويم().
أهمية المنهج:
سئل أحد السياسيين عن مستقبل أمة، فقال: ضعوا أمامي مناهجها أنبئكم بمستقبلها.
يعد المنهج لب التربية، وهو الوسيلة التي تصل بها الأمة إلى ما تبتغيه من أهداف، وهو –بإجماع المربين- الأساس الذي يرتكز عليه بناء التربية، فبقوته يرسخ البناء ويقوى، وبضعفه ينهار البناء().
المطلب الثاني: تعريف المحظرة
الأصل اللغوي:
يتفق الباحثون على أن لفظ المحظرة مشتق: إما من الاحتظار، أو من الحضور والمحاضرة؛ فهي اسم لمجموعة من الحظائر يحيط بها الحي مساكنهم وأنعامهم، أو هي من الحضور والمحاضرة، "فقد كان الطلبة يأتون من كل حدب وصوب إلى شيوخ العلم لحضور دروسهم ومحاضراتهم"(). ويميل الأستاذ الخليل النحوي إلى ترجيح المعنى الأخير مستندا على بعض المسوغات().
التعريف الاصطلاحي:
المحظرة في الاصطلاح المحلي: "مؤسسة دراسية تقليدية جامعة لشتات المعارف قد تتسع دلالتها لتشمل كتاتيب القرآن، ولكنها تنصرف غالبا في الاصطلاح إلى المدارس التي يتلقى فيها الطلبة مختلف المعارف الأخرى تدرجا من المستوى الابتدائي وصولا إلى المستوى الجامعي"(). أو هي باختصار: "جامعة شعبية بدوية متنقلة تلقينية فردية التعليم طوعية الممارسة"(). وهذا التعريف من أكثر التعريفات دقة وشمولا؛ لاحتوائه على أهم سمات المحظرة وخصائصها.
المطلب الثالث: المسيرة التاريخية للمحظرة
إن المتتبع لتاريخ المحظرة الموريتانية يلاحظ أنها مرت بثلاثة أطوار:
1- طور التأسيس والانتشار: ويبدأ بمقدم الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي (تـ 451هـ) إلى البلاد، حين أسس رباطا يعد النواة الأولى للمحاظر باتفاق المؤرخين.
ويرجع بعض الباحثين بدايات المحظرة إلى الفتح الإسلامي في القرن الثاني الهجري، إلا أن هذه البدايات كانت مقتصرة على كتاتيب القرآن ولم تتجاوزها().
وبعد استشهاد ابن ياسين تولى مهمة التدريس العالمان: الإمام الحضرمي (تـ489هـ)، والإمام إبراهيم الأموي (تـ500هـ). وانتشر التعليم المحظري في المدن والحواضر حتى نهاية القرن العاشر الهجري، وخصوصا في المدن التاريخية الأربع: شنقيط، وادان، تيشيت، ولاته.
2- طور التنوع والازدهار: وبدأ بانتقال المحاظر إلى البادية وازدهارها فيها بعد تراجع العطاء العلمي للمدن التاريخية بسبب الحروف الأهلية. وتتابع هذه الازدهار منذ القرن الحادي عشر الهجري في البادية، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل، يقول الدكتور أحمد بن حبيب الله: "إذا كان العلم صنعة لا يمكن أن تزدهر إلا في المدن والحواضر كالصناعات عامة حسب نظرية ابن خلدون الذي يقول: (إن التعليم إنما يكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، وذلك لأنه صناعة) فإن الواقع الشنقيطي القديم والحديث قد قلب الأطروحة الخلدونية رأسا على عقب"().
ويمثل هذا الطور العصر الذهبي للمحظرة طوال مسيرتها التاريخية حيث بلغت أوج ازدهارها في القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الهجري.
3- طور التراجع والانحسار: بدأ هذه الطور مع دخول الاستعمار الذي بدأ بمضايقة المحاظر بإنشاء المدارس الحديثة، فتأثرت المحاظر بذلك بالرغم من مقاومة أهلها. ومع مطلع الاستقلال انتشرت المدارس الحكومية وانصرف إليها كثير من أبناء الشعب. ثم جاءت أزمة الجفاف والتصحر مع أوائل السبيعينات، فتأثرت المحاظر بها أكثر من غيرها بسبب الهجرة الكثيفة لسكان البادية إلى المدن بحثا عن العمل والعيش، بعد تأثر اقتصادهم البدوي الناتج عن الجفاف().
غير أنه تأسست في العاصمة معاهد ومدارس يتبع بعضها منهجا توفيقيا بين وسائل العصر ومناهجه وروح المحظرة وبرامجها. ومنها: مدرسة العون، ومعاهد الفاروق، وابن عباس، وخالد، والمعاهد التابعة للتجمع الثقافي الإسلامي. كما أسست الدولة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية. وهناك اهتمام متجدد بإحياء زوايا ثقافية تراثية منها على سبيل المثال: زاوية الشيخ سيدي المختار الكنتي، وزاوية الشيخ محمد المامي، وغيرهما.
المبحث الثاني: المنهج التربوي للمحظرة
المطلب الأول: المقررات (البرنامج الدراسي)
معارف المحظرة وترتيبها:
يصنف العلامة المختار ولد حامدن معارف المحظرة مرتبة وفق ما يلي():
- الدرجة الأولى: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والتصوف، والسيرة، والغزوات، وفتوحات الصحابة وأنسابهم.
- الدرجة الثانية: اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والعروض، وأنساب العرب وأيامهم.
- الدرجة الثالثة: المنطق، والتاريخ، والجغرافية، والحساب، والفلك، والهندسة.
وتختلف المحاظر في ترتيب المعارف حسب الجهات؛ فبعض المحاظر في "الكبله" تبدأ بالفنون اللغوية، ثم العقائد، ثم الفقه. أما محاظر شرق البلاد ووسطها فتبدأ بالفقه أولا (الأخضري، ابن عاشر، الرسالة، مختصر خليل). ويقول محمد مبارك اللمتوني مبينا رأيه في ترتيبه المنهج():
وقَدِّمِ الأهمَّ إنَّ العلمَ جمّْ = والعلمُ طيفٌ زارَ أو ضيفٌ أَلَـمّْ
أهمُّه عقائدٌ ثمَّ فروعْ= تصوفٌ وآلةٌ بها الشروعْ
بيد أن مناهج الدراسة تتركز في ثلاثة فنون رئيسة لا تخلو منها محظرة، وهي: الفقه، واللغة، والنحو. وقد تزيد عليها بعض المحاظر فنونا أخرى كالتفسير والحديث والسيرة. وأشهر الكتب المتداولة في الفقه مختصر خليل، وهو المعتمد عليه في الفقه والفتيا، يليه في الأهمية ألفية ابن مالك في النحو، وفي اللغة تأتي المعلقات والدواوين الشعرية (حسان بن ثابت وغيلان..) في المقدمة.
التخصص في المحاظر:
رغم غلبة الطابع الموسوعي للمحظرة الموريتانية فقد اشتهرت بعض المحاظر بالتخصص في بعض الفنون؛ فمحظرة "الكحله" (في آفطوط) متخصصة في العلوم الشرعية فقط. أما ربيبتها "الصفره" فهي متخصصة في العلوم اللغوية فقط. وكانت محاظر الشرق (في لعصابه والحوضين) تعتني بالقرآن وعلومه مع دراسة العلوم الشرعية، وفي محاضر "الكبله" (في جنوب غرب البلاد) كانت دراسة مختصر خليل والألفية على حد سواء في الأهمية. واشتهرت بعض من محاضر "الكبله" بالدراسات النحوية واللغوية مثل محظرة محمدو بن حنبل الحسني، ومحظرة يحظيه بن عبد الودود القناني، ومحظرة اجدود بن اكتوشن العلوي. وكذلك اشتهرت محظرة أهل محمد سالم المجلسي باختصاصها في الفقه واللغة والتفسير والحديث في زمن مؤسسها المذكور().
وسنأخذ نموذجين للاستدلال على المنهج الدراسي للمحظرة يمثلان منطقتي "الكبله" وشرق البلاد. أولهما: محظرة يحظيه بن عبد الودود (تـ1358هـ)، والآخر: المعارف والفنون التي درسها والد الشيخ سيدي المختار الكنتي.
في النموذج الأول، يتحدث الأستاذ الباحث محمذن ولد المحبوب في مقال له عن محظرة يحظيه بن عبد الودود، مشبها إياها بجامعة لها كليتان تحويان خمس شعب دراسية()، ويمكن تصنيفها حسب ما يلي:
1- كلية الشريعة الإسلامية:
-شعبة العقيدة والتوحيد: (إضاءة الدجنة، الوسيلة لابن بونه، العقائد السنوسية..).
-شعبة الفقه وفروعه: (الرسالة، مختصر خليل وشروحه).
2- كلية الآداب والعلوم الإنسانية:
-شعبة النحو واللسانيات والصرف: (تدريس ألفية ابن مالك مع توشيح ابن بونا عليها، ولامية الأفعال لابن مالك مع توشيح الحسن بن زين وتكميله لها).
-شعبة اللغة والأدب: (تدريس دواوين الستة الجاهليين للأعلم الشنتمري، وغيلان، وكامل المبرد، وأشعار العباسيين).
-شعبة التاريخ والسير والجغرافية: (تدريس نظم الغزوات للبدوي، وعمود النسب له أيضا، وقرة الأبصار للمطي..).
أما النموذج الثاني الذي يمثل المنطقة الشرقية، فيذكر الشيخ سيدي المختار الكنتي في كتابه "الطرائف والتلائد" الفنون التي درسها والده معددا إيها: (مختصر خليل، نظم الغزوات، الرسالة، حدود ابن عرفة في الفقه، ألفية ابن مالك، الفريدة للسيوطي في النحو، ألفية السيوطي (عقود الجمان) في البلاغة، المنجور على قواعد الزقاق في القواعد، وورقات الجويني، وجمع الجوامع في الأصول، والصحاح الستة في الحديث، وتفسير ابن عطية)().
المطلب الثاني: الأهداف والوسائل التعليمية
الأهداف:
المحظرة ليست مجرد مدرسة جامعة تلقن المعارف فحسب، بل هي مدرسة للحياة، تعنى بتكوين الطالب جسميا وعقليا ونفسيا تكوينا متكاملا. فهي تعد الشباب الغض لمواجهة الحياة الخشنة في البادية والصحراء، حتى إذا خرج منها عاد إلى أهله جاهزا لمواجهة أعباء الحياة().
والطالب عادة يتوجه إلى المحظرة ولا هم له إلا التعلم والتفقه في الدين، وليس الشهرة أو المنصب أو المتعة المادية.
الوسائل:
ويقصد بها كلم ما يستعان به لتيسير عملية التعلم على الطالب(). والوسائل في التعليم المحظري تقتصر على أدوات الكتابة والتعلم. وهي:
- اللوح، ويصنع من الخشب المحلي، وتكتب عليه الدروس، ويفضلونه على الورق في التعلم. وقد ارتبط اللوح بالمحظرة ارتباطا وثيقا، وكان له نصيب من الأدب المحظري. يقول الشيخ محمد بن حنبل في اللوح:
عِمْ صباحًا، أفلحتَ كلَّ فلاحِ= فيكَ يا لوحُ لمْ أطعْ ألفَ لاحِ
أنتَ يا لوحُ صاحبِي وأنيسِي= وشِفائِي مِن غُلَّتي ولُوَاحِي
فانتصاحُ امرئٍ يَرُومُ اعتياضِي= طلبَ الوَفْرِ منكَ شرُّ انتصاحِ
بكَ لا بالثَّرا كَلِفتُ قديمًا= ومُحَيَّاكَ لا وُجوهِ الملاحِ
- القلم، ويصنع من أعواد الثمام أو الجريد، ويبرى ويشق رأسه لتسهيل انسياب الحبر منه. ويستعمل للكتابة على اللوح وعلى الورق أيضا.
- الورق، وقد جاء متأخرا، وهو يستورد من الخارج، ويستعمل للاستنساخ والتدوين والتصنيف.
- الحبر، ويصنع من أخلاط محلية، ويتوفر بألوان مختلفة منها: الأسود وهو أكثرها استعمالا، والأحمر وأكثر ما يستعمل في التوشيح والتطرير، والأخضر وهو قليل الاستعمال.
- الكتاب، وكان نادرا وغالي الثمن، وقد دخلت الكتب إلى البلاد عن طريق الرحلات العلمية ورحلات الحج. واشتهرت مدن مثل شنقيط وولاته بكثرة مكتباتها().
المطلب الثالث: أساليب التدريس.
الزمن:
يبدأ وقت الدراسة من الصباح حتى الليل في أغلب الأحيان، تبعا لكثرة الطلاب وازدحام المحظرة بهم. وتختلف طريقة التدريس من محظرة إلى أخرى، والغالب أن يتبع الشيخ إحدى ثلاث طرائق:
1- تقسيم ساعات النهار على المواد الدراسية حسب أهميتها.
2- التدريس الجماعي أو الزمري: ويدعى محليا بـ"الدولة"، وهو عبارة عن مجموعة من الطلاب يشتركون في وحدة الفن والنص.
3- استقبال الطلاب حسب الأسبقية في المجيء (نظام الأول فالذي يليه).
كيفية التدريس:
لا توجد كيفية معينة تضبط الهيئة التي يُدرس عليها الشيخ. فالشيخ كما يقول أحمد بن الأمين الشنقيطي في الوسيط: "يدرس مرة ماشيا مسرعا، ومرة جالسا في بيته، ومرة في المسجد، وفيهم من يدرس في أثناء الارتحال.."().
خطوات تحصيل الدرس:
يتبع الطالب في دراسته تسلسلا معينا: فهو يكتب النص على اللوح الخشبي، ثم يقرأه على "المرابط" للإجازة، ثم يقبل على قراءة النص بالتكرار حتى يحفظه، ثم يقرأه على "المرابط" غيبا واستظهارا من ذاكرته، ثم يعود لقراءته مجزأً (جملة جملة أو بيتا أو بيتا، حسب نوع الفن) والشيخ يتولى الشرح في أثناء ذلك. ولا يبقى بعد هذه المراحل إلا التكرار لترسيخ المعلومات في الذهن().
وقد جمع هذه الخطوات العلامة محمذن فال بن متالي التندغي، فقال:
كَتْبٌ إجازةٌ وحفظُ الرسمِ= قراءةٌ تدريسٌ اخذُ العلمِ
ومن يقدمْ رتبةً على المحلّْ= مِنْ ذِي المراتبِ المرامَ لم يَنَلْ
المطلب الرابع: التقويم.
يختلف نظام التقويم في المحظرة عنه في المدارس والجامعات الحديثة. ومع ذلك فالتقويم عملية مستمر في رحاب المحظرة، وتؤدي إلى نتائجها بكفاءة. ويتخذ هذا التقويم نمطين() هما:
1- التقويم التكويني: وهو التقويم المستمر السائد في المحظرة، ومن أشكاله:
- التقويم الذاتي الزمري: وهو ظاهرة تنفرد بها المحاظر، وتأخذ شكل أحاجيَّ وألغاز ومساجلات وتمرينات يختبر بها الطلاب بعضهم بعضا، ويطلع الشيخ عادة على سير هذا التقويم للاستفادة من في رصد مستويات الطلبة.
- اختبار القافلة: وهو أن يتعرض الطلاب للقوافل، ويطلبوا من علمائها اختبار مستوياتهم العلمية، فيمتحنهم هؤلاء، فإن نجحوا استحقوا عليهم مكافأة.
2- التقويم النهائي: وهو لا يتخذ شكل امتحان أو اختبار، وإنما يبني الشيخ تقويمه النهائي للطالب على أدائه في سلسلة الاختبارات التكوينية التي خاضها في أثناء دراسته، ويجسد الشيخ قراره بمنح الإجازة بناء على هذا التقويم. والإجازة نوعان:
-إجازة مقيدة: وتختص بفن واحد كالمقرإ، أو النحو، أو الحديث. ويلزم فيها إثبات سلسلة رجال السند الذي أخذ عنهم.
-إجازة مطلقة: ولا تمنح إلا لأفراد قليلين من النابهين الذين استكملوا جميع العلوم المدروسة في المحظرة، وأخذوا كل ما عند الشيخ، وعادة ما يؤسس هؤلاء محاظر جديدة في أحيائهم.
المطلب الخامس: الفضائل والنواقص في المنهج التربوي للمحظرة.
الفضائل:
يلتقي المنهج التربوي للمحظرة في بعض مبادئه مع قواعد التربية الحديثة، ويمتاز عنها بما يلي:
- الحرية: طلاب المحظرة أحرار في اختيار الفن المدروس، والمنهج، والمدة التي يقضونها، بل وفي المعلم (إن كان في المحظرة أكثر من شيخ).
- المساواة: يحق لكل شخص الالتحاق بالمحظرة، بعض النظر عن عمره أو بيئته الاجتماعية، والطلاب سواسية، فمعيار التميز عندهم هو التفوق المعرفي فقط.
- المجانية: المحظرة لا تأخذ رسوما من طلابها، فالطالب الموسر ينفق على نفسه، أما المقتر فينفق عليه الشيخ أو زملاؤه أو أهل الحي().
- الموسوعية: فالمحظرة جامعة موسوعية يتلقى فيها الطالب المعارف والفنون المختلفة.
أما المبادئ التي تضبط التدريسَ()، فأهمها:
- التدرج: وهو الالتزام بالتسلسل الطبيعي في دراسة المتون، وفيبدأون بالمتون السهلة، وينتقلون إلى المتون الصعبة؛ ففي الفقه: الأخضري، ثم ابن عاشر، ثم الرسالة، ثم المختصر. وفي النحو: الآجرومية، فنظم عبيد ربه، فالألفية. وعكسه التنكيس الذي نهى عنه أحدهم قائلا:
علامةُ الجهلِ بهذا الجيلِ= تركُ الرسالةِ إلى خليلِ
وتركُ الَاخضرِيْ إلى ابنِ عاشرِ= وتراكَ ذيْنِ للرسالةِ احذرِ
- وحدة المتن واستيفاؤه: فيحظر على الطالب الاشتغال بأكثر من فن في آن واحد. قال أحدهم:
وإنْ تُردْ تَكميلَ فنٍّ تَممَهْ= وعنْ سواه قبلَ الانتهاءِ مَهْ
- تقليل الحصة الدراسية لتمكين الطالب من الاستيعاب، ومثاله تقسيم المختصر إلى "أقفاف" معروفة.
- إعادة دراسة المتن بعد استيفائه أكثر من مرة؛ لزيادة الحفظ والاستيعاب.
- اعتماد الطريقة التلقينية في توصيل المعلومات، تطبيقا للمقولة المأثورة: "العلم يُؤخذ من أفواه الرجال لا من بطون الكتب".
النواقص:
وأغلبها يخضع لمؤثرات خارجة عن المحظرة، كالبداوة، وتواضع الوسائل، وقساوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية. ومنها ما يتعلق بالمحتويات، ومنها ما يتعلق بالتدريس. وأهمها:
-إهمال الدراسات المتعلقة بالتفسير والحديث، لغلبة تقليد المذهب المالكي والاستدلال بفروعه من خلال نصوص خليل. أما قراءة القرآن والحديث فكانت غالبا للتبرك لا للاستنباط والعمل.
-الاقتصار في الفقه على دراسة المذهب المالكي وإهمال المذاهب الأخرى. ولعل ذلك يعود إلى انتشار المذهب المالكي دون غيره المذاهب.
-غياب المواد العلمية والرياضية في برنامج المحظرة الدراسي. ويسوغ الأستاذ محمد المختار بن اباه ذلك بقوله: "وطبيعة البلادة تفسر هذه الظاهرة، فحياة البادية لا تحتاج إلى صناعة وهندسة، ويكفيها من الحساب ما يستعان به في قسمة الفرائض على أهل السهام"().
-الإكثار من الاستطراد في الشرح؛ وهو قد ينقل الطالب من فنه إلى متاهات الفنون الأخرى.
-حشو ذهن الطالب بالمعلومات؛ وقد يؤدي ذلك إلى تشتت في ذهنه.
هذه هي أهم النواقص الشائعة مع وجود استثناءات في بعض المحاظر. ويلاحظ قلة النواقص في جانب المزايا والفضائل، وقديما قيل: "كفى المرء نبلا أن تُعد معايبه".
الخاتمة:
لقد كانت المحظرة عبر تاريخها منارة للمعرفة ومعقلا للإسلام في غرب إفريقيا؛ فانتشر إشعاعها الديني والمعرفي في المنطقة، وأنجبت أعلاما كان لهم حضور علمي كبير في خارج البلاد، حتى قال طه حسين في وصف أحد مخرجات هذه المحظرة، وهو العلامة محمد محمود بن التلاميد التركزي: "كان أولئك الطلبة يتحدثون أنهم لم يروا ضريبًا للشيخ الشنقيطي في حفظه للغة ورواية الحديث سندًا ومتنًا عن ظهر قلب"(). والفضل في ذلك بعد الله يعود إلى المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية، وهو المنهج الذي يتسم بالمرونة والتكامل والتنوع والثراء شكلا ومضمونا.
"وقد أُعجبَ الناس (في الخارج) بهذه المؤسسة ومنهجها الفريد من خلال العلماء الذي التقوا بهم أو عرفوهم؛ فالشيخ عبد الرحمن بن بلال لما استدعته جامعة اليمن طلبوا منه إنشاء محظرة هناك. وفي أمريكا أسس تلامذة العلامة الشيخ الحاج بن فحفو الشنقيطي – وهم أمريكيون- محظرةً في كاليفورنيا باسم (الزيتونة) يديرها الشيخ حمزة يوسف، وتُدرس المتون والشروح على الطريقة الموريتانية"().
وكل ذلك يدل على كفاءة هذا المنهج ونجاحه حتى على الصعيد الخارجي. وما أحرانا أن نستفيد من المزايا التي يتحلى بها المنهج المحظري في إغناء نظامنا التعليمي الحديث المتعثر والنهوض به، سواء من حيث الشكلُ أم من حيث المضمونُ.
إعداد:
أبي سارة الحسني الشنقيطي
فإني سأتناول في هذه العجالة موضوع "المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية.. فضائله ونواقصه" وها أنا أستعين بالله وأشرع في الكتابة رغم كل المعوقات، آملا أن تنجح محاولتي هذه في إثارة الموضوع، والإلمام ببعض جوانبه، وإن لم تحط به كله. فما لا يدرك كله لا يترك جله.
المبحث الأول: مدخل عام
المطلب الأول: المنهج التربوي
تعريف المنهج:
المنهج (بفتح الميم وكسرها) والمنهاج لغة: الطريق الواضح
وفي الاصطلاح التربوي هو: "مجموع الخبرات والمهارات وأوجه النشاط التي توفرها المدرسة لتلاميذها، لتحقق لهم أقصى درجة ممكنة من النمو المتكامل، وتحقق للمجتمع كامل أهدافه من التربية والتعليم.."
وقد تطور مفهوم المنهج وصار يشمل: الأهداف، والمقررات الدراسية، وأساليب التدريس، والوسائل التعليمية، والتقويم().
أهمية المنهج:
سئل أحد السياسيين عن مستقبل أمة، فقال: ضعوا أمامي مناهجها أنبئكم بمستقبلها.
يعد المنهج لب التربية، وهو الوسيلة التي تصل بها الأمة إلى ما تبتغيه من أهداف، وهو –بإجماع المربين- الأساس الذي يرتكز عليه بناء التربية، فبقوته يرسخ البناء ويقوى، وبضعفه ينهار البناء().
المطلب الثاني: تعريف المحظرة
الأصل اللغوي:
يتفق الباحثون على أن لفظ المحظرة مشتق: إما من الاحتظار، أو من الحضور والمحاضرة؛ فهي اسم لمجموعة من الحظائر يحيط بها الحي مساكنهم وأنعامهم، أو هي من الحضور والمحاضرة، "فقد كان الطلبة يأتون من كل حدب وصوب إلى شيوخ العلم لحضور دروسهم ومحاضراتهم"(). ويميل الأستاذ الخليل النحوي إلى ترجيح المعنى الأخير مستندا على بعض المسوغات().
التعريف الاصطلاحي:
المحظرة في الاصطلاح المحلي: "مؤسسة دراسية تقليدية جامعة لشتات المعارف قد تتسع دلالتها لتشمل كتاتيب القرآن، ولكنها تنصرف غالبا في الاصطلاح إلى المدارس التي يتلقى فيها الطلبة مختلف المعارف الأخرى تدرجا من المستوى الابتدائي وصولا إلى المستوى الجامعي"(). أو هي باختصار: "جامعة شعبية بدوية متنقلة تلقينية فردية التعليم طوعية الممارسة"(). وهذا التعريف من أكثر التعريفات دقة وشمولا؛ لاحتوائه على أهم سمات المحظرة وخصائصها.
المطلب الثالث: المسيرة التاريخية للمحظرة
إن المتتبع لتاريخ المحظرة الموريتانية يلاحظ أنها مرت بثلاثة أطوار:
1- طور التأسيس والانتشار: ويبدأ بمقدم الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي (تـ 451هـ) إلى البلاد، حين أسس رباطا يعد النواة الأولى للمحاظر باتفاق المؤرخين.
ويرجع بعض الباحثين بدايات المحظرة إلى الفتح الإسلامي في القرن الثاني الهجري، إلا أن هذه البدايات كانت مقتصرة على كتاتيب القرآن ولم تتجاوزها().
وبعد استشهاد ابن ياسين تولى مهمة التدريس العالمان: الإمام الحضرمي (تـ489هـ)، والإمام إبراهيم الأموي (تـ500هـ). وانتشر التعليم المحظري في المدن والحواضر حتى نهاية القرن العاشر الهجري، وخصوصا في المدن التاريخية الأربع: شنقيط، وادان، تيشيت، ولاته.
2- طور التنوع والازدهار: وبدأ بانتقال المحاظر إلى البادية وازدهارها فيها بعد تراجع العطاء العلمي للمدن التاريخية بسبب الحروف الأهلية. وتتابع هذه الازدهار منذ القرن الحادي عشر الهجري في البادية، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل، يقول الدكتور أحمد بن حبيب الله: "إذا كان العلم صنعة لا يمكن أن تزدهر إلا في المدن والحواضر كالصناعات عامة حسب نظرية ابن خلدون الذي يقول: (إن التعليم إنما يكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، وذلك لأنه صناعة) فإن الواقع الشنقيطي القديم والحديث قد قلب الأطروحة الخلدونية رأسا على عقب"().
ويمثل هذا الطور العصر الذهبي للمحظرة طوال مسيرتها التاريخية حيث بلغت أوج ازدهارها في القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الهجري.
3- طور التراجع والانحسار: بدأ هذه الطور مع دخول الاستعمار الذي بدأ بمضايقة المحاظر بإنشاء المدارس الحديثة، فتأثرت المحاظر بذلك بالرغم من مقاومة أهلها. ومع مطلع الاستقلال انتشرت المدارس الحكومية وانصرف إليها كثير من أبناء الشعب. ثم جاءت أزمة الجفاف والتصحر مع أوائل السبيعينات، فتأثرت المحاظر بها أكثر من غيرها بسبب الهجرة الكثيفة لسكان البادية إلى المدن بحثا عن العمل والعيش، بعد تأثر اقتصادهم البدوي الناتج عن الجفاف().
غير أنه تأسست في العاصمة معاهد ومدارس يتبع بعضها منهجا توفيقيا بين وسائل العصر ومناهجه وروح المحظرة وبرامجها. ومنها: مدرسة العون، ومعاهد الفاروق، وابن عباس، وخالد، والمعاهد التابعة للتجمع الثقافي الإسلامي. كما أسست الدولة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية. وهناك اهتمام متجدد بإحياء زوايا ثقافية تراثية منها على سبيل المثال: زاوية الشيخ سيدي المختار الكنتي، وزاوية الشيخ محمد المامي، وغيرهما.
المبحث الثاني: المنهج التربوي للمحظرة
المطلب الأول: المقررات (البرنامج الدراسي)
معارف المحظرة وترتيبها:
يصنف العلامة المختار ولد حامدن معارف المحظرة مرتبة وفق ما يلي():
- الدرجة الأولى: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والتصوف، والسيرة، والغزوات، وفتوحات الصحابة وأنسابهم.
- الدرجة الثانية: اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والعروض، وأنساب العرب وأيامهم.
- الدرجة الثالثة: المنطق، والتاريخ، والجغرافية، والحساب، والفلك، والهندسة.
وتختلف المحاظر في ترتيب المعارف حسب الجهات؛ فبعض المحاظر في "الكبله" تبدأ بالفنون اللغوية، ثم العقائد، ثم الفقه. أما محاظر شرق البلاد ووسطها فتبدأ بالفقه أولا (الأخضري، ابن عاشر، الرسالة، مختصر خليل). ويقول محمد مبارك اللمتوني مبينا رأيه في ترتيبه المنهج():
وقَدِّمِ الأهمَّ إنَّ العلمَ جمّْ = والعلمُ طيفٌ زارَ أو ضيفٌ أَلَـمّْ
أهمُّه عقائدٌ ثمَّ فروعْ= تصوفٌ وآلةٌ بها الشروعْ
بيد أن مناهج الدراسة تتركز في ثلاثة فنون رئيسة لا تخلو منها محظرة، وهي: الفقه، واللغة، والنحو. وقد تزيد عليها بعض المحاظر فنونا أخرى كالتفسير والحديث والسيرة. وأشهر الكتب المتداولة في الفقه مختصر خليل، وهو المعتمد عليه في الفقه والفتيا، يليه في الأهمية ألفية ابن مالك في النحو، وفي اللغة تأتي المعلقات والدواوين الشعرية (حسان بن ثابت وغيلان..) في المقدمة.
التخصص في المحاظر:
رغم غلبة الطابع الموسوعي للمحظرة الموريتانية فقد اشتهرت بعض المحاظر بالتخصص في بعض الفنون؛ فمحظرة "الكحله" (في آفطوط) متخصصة في العلوم الشرعية فقط. أما ربيبتها "الصفره" فهي متخصصة في العلوم اللغوية فقط. وكانت محاظر الشرق (في لعصابه والحوضين) تعتني بالقرآن وعلومه مع دراسة العلوم الشرعية، وفي محاضر "الكبله" (في جنوب غرب البلاد) كانت دراسة مختصر خليل والألفية على حد سواء في الأهمية. واشتهرت بعض من محاضر "الكبله" بالدراسات النحوية واللغوية مثل محظرة محمدو بن حنبل الحسني، ومحظرة يحظيه بن عبد الودود القناني، ومحظرة اجدود بن اكتوشن العلوي. وكذلك اشتهرت محظرة أهل محمد سالم المجلسي باختصاصها في الفقه واللغة والتفسير والحديث في زمن مؤسسها المذكور().
وسنأخذ نموذجين للاستدلال على المنهج الدراسي للمحظرة يمثلان منطقتي "الكبله" وشرق البلاد. أولهما: محظرة يحظيه بن عبد الودود (تـ1358هـ)، والآخر: المعارف والفنون التي درسها والد الشيخ سيدي المختار الكنتي.
في النموذج الأول، يتحدث الأستاذ الباحث محمذن ولد المحبوب في مقال له عن محظرة يحظيه بن عبد الودود، مشبها إياها بجامعة لها كليتان تحويان خمس شعب دراسية()، ويمكن تصنيفها حسب ما يلي:
1- كلية الشريعة الإسلامية:
-شعبة العقيدة والتوحيد: (إضاءة الدجنة، الوسيلة لابن بونه، العقائد السنوسية..).
-شعبة الفقه وفروعه: (الرسالة، مختصر خليل وشروحه).
2- كلية الآداب والعلوم الإنسانية:
-شعبة النحو واللسانيات والصرف: (تدريس ألفية ابن مالك مع توشيح ابن بونا عليها، ولامية الأفعال لابن مالك مع توشيح الحسن بن زين وتكميله لها).
-شعبة اللغة والأدب: (تدريس دواوين الستة الجاهليين للأعلم الشنتمري، وغيلان، وكامل المبرد، وأشعار العباسيين).
-شعبة التاريخ والسير والجغرافية: (تدريس نظم الغزوات للبدوي، وعمود النسب له أيضا، وقرة الأبصار للمطي..).
أما النموذج الثاني الذي يمثل المنطقة الشرقية، فيذكر الشيخ سيدي المختار الكنتي في كتابه "الطرائف والتلائد" الفنون التي درسها والده معددا إيها: (مختصر خليل، نظم الغزوات، الرسالة، حدود ابن عرفة في الفقه، ألفية ابن مالك، الفريدة للسيوطي في النحو، ألفية السيوطي (عقود الجمان) في البلاغة، المنجور على قواعد الزقاق في القواعد، وورقات الجويني، وجمع الجوامع في الأصول، والصحاح الستة في الحديث، وتفسير ابن عطية)().
المطلب الثاني: الأهداف والوسائل التعليمية
الأهداف:
المحظرة ليست مجرد مدرسة جامعة تلقن المعارف فحسب، بل هي مدرسة للحياة، تعنى بتكوين الطالب جسميا وعقليا ونفسيا تكوينا متكاملا. فهي تعد الشباب الغض لمواجهة الحياة الخشنة في البادية والصحراء، حتى إذا خرج منها عاد إلى أهله جاهزا لمواجهة أعباء الحياة().
والطالب عادة يتوجه إلى المحظرة ولا هم له إلا التعلم والتفقه في الدين، وليس الشهرة أو المنصب أو المتعة المادية.
الوسائل:
ويقصد بها كلم ما يستعان به لتيسير عملية التعلم على الطالب(). والوسائل في التعليم المحظري تقتصر على أدوات الكتابة والتعلم. وهي:
- اللوح، ويصنع من الخشب المحلي، وتكتب عليه الدروس، ويفضلونه على الورق في التعلم. وقد ارتبط اللوح بالمحظرة ارتباطا وثيقا، وكان له نصيب من الأدب المحظري. يقول الشيخ محمد بن حنبل في اللوح:
عِمْ صباحًا، أفلحتَ كلَّ فلاحِ= فيكَ يا لوحُ لمْ أطعْ ألفَ لاحِ
أنتَ يا لوحُ صاحبِي وأنيسِي= وشِفائِي مِن غُلَّتي ولُوَاحِي
فانتصاحُ امرئٍ يَرُومُ اعتياضِي= طلبَ الوَفْرِ منكَ شرُّ انتصاحِ
بكَ لا بالثَّرا كَلِفتُ قديمًا= ومُحَيَّاكَ لا وُجوهِ الملاحِ
- القلم، ويصنع من أعواد الثمام أو الجريد، ويبرى ويشق رأسه لتسهيل انسياب الحبر منه. ويستعمل للكتابة على اللوح وعلى الورق أيضا.
- الورق، وقد جاء متأخرا، وهو يستورد من الخارج، ويستعمل للاستنساخ والتدوين والتصنيف.
- الحبر، ويصنع من أخلاط محلية، ويتوفر بألوان مختلفة منها: الأسود وهو أكثرها استعمالا، والأحمر وأكثر ما يستعمل في التوشيح والتطرير، والأخضر وهو قليل الاستعمال.
- الكتاب، وكان نادرا وغالي الثمن، وقد دخلت الكتب إلى البلاد عن طريق الرحلات العلمية ورحلات الحج. واشتهرت مدن مثل شنقيط وولاته بكثرة مكتباتها().
المطلب الثالث: أساليب التدريس.
الزمن:
يبدأ وقت الدراسة من الصباح حتى الليل في أغلب الأحيان، تبعا لكثرة الطلاب وازدحام المحظرة بهم. وتختلف طريقة التدريس من محظرة إلى أخرى، والغالب أن يتبع الشيخ إحدى ثلاث طرائق:
1- تقسيم ساعات النهار على المواد الدراسية حسب أهميتها.
2- التدريس الجماعي أو الزمري: ويدعى محليا بـ"الدولة"، وهو عبارة عن مجموعة من الطلاب يشتركون في وحدة الفن والنص.
3- استقبال الطلاب حسب الأسبقية في المجيء (نظام الأول فالذي يليه).
كيفية التدريس:
لا توجد كيفية معينة تضبط الهيئة التي يُدرس عليها الشيخ. فالشيخ كما يقول أحمد بن الأمين الشنقيطي في الوسيط: "يدرس مرة ماشيا مسرعا، ومرة جالسا في بيته، ومرة في المسجد، وفيهم من يدرس في أثناء الارتحال.."().
خطوات تحصيل الدرس:
يتبع الطالب في دراسته تسلسلا معينا: فهو يكتب النص على اللوح الخشبي، ثم يقرأه على "المرابط" للإجازة، ثم يقبل على قراءة النص بالتكرار حتى يحفظه، ثم يقرأه على "المرابط" غيبا واستظهارا من ذاكرته، ثم يعود لقراءته مجزأً (جملة جملة أو بيتا أو بيتا، حسب نوع الفن) والشيخ يتولى الشرح في أثناء ذلك. ولا يبقى بعد هذه المراحل إلا التكرار لترسيخ المعلومات في الذهن().
وقد جمع هذه الخطوات العلامة محمذن فال بن متالي التندغي، فقال:
كَتْبٌ إجازةٌ وحفظُ الرسمِ= قراءةٌ تدريسٌ اخذُ العلمِ
ومن يقدمْ رتبةً على المحلّْ= مِنْ ذِي المراتبِ المرامَ لم يَنَلْ
المطلب الرابع: التقويم.
يختلف نظام التقويم في المحظرة عنه في المدارس والجامعات الحديثة. ومع ذلك فالتقويم عملية مستمر في رحاب المحظرة، وتؤدي إلى نتائجها بكفاءة. ويتخذ هذا التقويم نمطين() هما:
1- التقويم التكويني: وهو التقويم المستمر السائد في المحظرة، ومن أشكاله:
- التقويم الذاتي الزمري: وهو ظاهرة تنفرد بها المحاظر، وتأخذ شكل أحاجيَّ وألغاز ومساجلات وتمرينات يختبر بها الطلاب بعضهم بعضا، ويطلع الشيخ عادة على سير هذا التقويم للاستفادة من في رصد مستويات الطلبة.
- اختبار القافلة: وهو أن يتعرض الطلاب للقوافل، ويطلبوا من علمائها اختبار مستوياتهم العلمية، فيمتحنهم هؤلاء، فإن نجحوا استحقوا عليهم مكافأة.
2- التقويم النهائي: وهو لا يتخذ شكل امتحان أو اختبار، وإنما يبني الشيخ تقويمه النهائي للطالب على أدائه في سلسلة الاختبارات التكوينية التي خاضها في أثناء دراسته، ويجسد الشيخ قراره بمنح الإجازة بناء على هذا التقويم. والإجازة نوعان:
-إجازة مقيدة: وتختص بفن واحد كالمقرإ، أو النحو، أو الحديث. ويلزم فيها إثبات سلسلة رجال السند الذي أخذ عنهم.
-إجازة مطلقة: ولا تمنح إلا لأفراد قليلين من النابهين الذين استكملوا جميع العلوم المدروسة في المحظرة، وأخذوا كل ما عند الشيخ، وعادة ما يؤسس هؤلاء محاظر جديدة في أحيائهم.
المطلب الخامس: الفضائل والنواقص في المنهج التربوي للمحظرة.
الفضائل:
يلتقي المنهج التربوي للمحظرة في بعض مبادئه مع قواعد التربية الحديثة، ويمتاز عنها بما يلي:
- الحرية: طلاب المحظرة أحرار في اختيار الفن المدروس، والمنهج، والمدة التي يقضونها، بل وفي المعلم (إن كان في المحظرة أكثر من شيخ).
- المساواة: يحق لكل شخص الالتحاق بالمحظرة، بعض النظر عن عمره أو بيئته الاجتماعية، والطلاب سواسية، فمعيار التميز عندهم هو التفوق المعرفي فقط.
- المجانية: المحظرة لا تأخذ رسوما من طلابها، فالطالب الموسر ينفق على نفسه، أما المقتر فينفق عليه الشيخ أو زملاؤه أو أهل الحي().
- الموسوعية: فالمحظرة جامعة موسوعية يتلقى فيها الطالب المعارف والفنون المختلفة.
أما المبادئ التي تضبط التدريسَ()، فأهمها:
- التدرج: وهو الالتزام بالتسلسل الطبيعي في دراسة المتون، وفيبدأون بالمتون السهلة، وينتقلون إلى المتون الصعبة؛ ففي الفقه: الأخضري، ثم ابن عاشر، ثم الرسالة، ثم المختصر. وفي النحو: الآجرومية، فنظم عبيد ربه، فالألفية. وعكسه التنكيس الذي نهى عنه أحدهم قائلا:
علامةُ الجهلِ بهذا الجيلِ= تركُ الرسالةِ إلى خليلِ
وتركُ الَاخضرِيْ إلى ابنِ عاشرِ= وتراكَ ذيْنِ للرسالةِ احذرِ
- وحدة المتن واستيفاؤه: فيحظر على الطالب الاشتغال بأكثر من فن في آن واحد. قال أحدهم:
وإنْ تُردْ تَكميلَ فنٍّ تَممَهْ= وعنْ سواه قبلَ الانتهاءِ مَهْ
- تقليل الحصة الدراسية لتمكين الطالب من الاستيعاب، ومثاله تقسيم المختصر إلى "أقفاف" معروفة.
- إعادة دراسة المتن بعد استيفائه أكثر من مرة؛ لزيادة الحفظ والاستيعاب.
- اعتماد الطريقة التلقينية في توصيل المعلومات، تطبيقا للمقولة المأثورة: "العلم يُؤخذ من أفواه الرجال لا من بطون الكتب".
النواقص:
وأغلبها يخضع لمؤثرات خارجة عن المحظرة، كالبداوة، وتواضع الوسائل، وقساوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية. ومنها ما يتعلق بالمحتويات، ومنها ما يتعلق بالتدريس. وأهمها:
-إهمال الدراسات المتعلقة بالتفسير والحديث، لغلبة تقليد المذهب المالكي والاستدلال بفروعه من خلال نصوص خليل. أما قراءة القرآن والحديث فكانت غالبا للتبرك لا للاستنباط والعمل.
-الاقتصار في الفقه على دراسة المذهب المالكي وإهمال المذاهب الأخرى. ولعل ذلك يعود إلى انتشار المذهب المالكي دون غيره المذاهب.
-غياب المواد العلمية والرياضية في برنامج المحظرة الدراسي. ويسوغ الأستاذ محمد المختار بن اباه ذلك بقوله: "وطبيعة البلادة تفسر هذه الظاهرة، فحياة البادية لا تحتاج إلى صناعة وهندسة، ويكفيها من الحساب ما يستعان به في قسمة الفرائض على أهل السهام"().
-الإكثار من الاستطراد في الشرح؛ وهو قد ينقل الطالب من فنه إلى متاهات الفنون الأخرى.
-حشو ذهن الطالب بالمعلومات؛ وقد يؤدي ذلك إلى تشتت في ذهنه.
هذه هي أهم النواقص الشائعة مع وجود استثناءات في بعض المحاظر. ويلاحظ قلة النواقص في جانب المزايا والفضائل، وقديما قيل: "كفى المرء نبلا أن تُعد معايبه".
الخاتمة:
لقد كانت المحظرة عبر تاريخها منارة للمعرفة ومعقلا للإسلام في غرب إفريقيا؛ فانتشر إشعاعها الديني والمعرفي في المنطقة، وأنجبت أعلاما كان لهم حضور علمي كبير في خارج البلاد، حتى قال طه حسين في وصف أحد مخرجات هذه المحظرة، وهو العلامة محمد محمود بن التلاميد التركزي: "كان أولئك الطلبة يتحدثون أنهم لم يروا ضريبًا للشيخ الشنقيطي في حفظه للغة ورواية الحديث سندًا ومتنًا عن ظهر قلب"(). والفضل في ذلك بعد الله يعود إلى المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية، وهو المنهج الذي يتسم بالمرونة والتكامل والتنوع والثراء شكلا ومضمونا.
"وقد أُعجبَ الناس (في الخارج) بهذه المؤسسة ومنهجها الفريد من خلال العلماء الذي التقوا بهم أو عرفوهم؛ فالشيخ عبد الرحمن بن بلال لما استدعته جامعة اليمن طلبوا منه إنشاء محظرة هناك. وفي أمريكا أسس تلامذة العلامة الشيخ الحاج بن فحفو الشنقيطي – وهم أمريكيون- محظرةً في كاليفورنيا باسم (الزيتونة) يديرها الشيخ حمزة يوسف، وتُدرس المتون والشروح على الطريقة الموريتانية"().
وكل ذلك يدل على كفاءة هذا المنهج ونجاحه حتى على الصعيد الخارجي. وما أحرانا أن نستفيد من المزايا التي يتحلى بها المنهج المحظري في إغناء نظامنا التعليمي الحديث المتعثر والنهوض به، سواء من حيث الشكلُ أم من حيث المضمونُ.
إعداد:
أبي سارة الحسني الشنقيطي